ثلاثية غرناطة لرضوى عاشور: سردية الانهيار والمقاومة في زمن الانكسار

مقدمة

في فضاء الأدب العربي، تبرز بعض الأعمال التي لا تكتفي بسرد الحكاية، بل تتجاوز ذلك إلى إعادة تشكيل الوعي، ومساءلة التاريخ والهوية والإنسان. من بين هذه الأعمال، تأتي “ثلاثية غرناطة” للكاتبة المصرية رضوى عاشور بوصفها واحدة من أعظم الروايات العربية التي مزجت بين السرد التاريخي والوجدان الإنساني والموقف السياسي.

صدرت الثلاثية في تسعينيات القرن العشرين، وتتألف من ثلاثة أجزاء: غرناطة، مريمة، الرحيل، وتتناول قصة سقوط الأندلس، وتحديدًا مملكة غرناطة، من خلال حياة عائلة أندلسية تعيش آخر سنوات الحكم الإسلامي في إسبانيا. لكنها، رغم تموضعها في الماضي، لا تنفصل عن قضايا الحاضر العربي، وتظل شاهدة على تكرار الانكسارات والخذلان، ومع ذلك، تُصر على التمسك بالكرامة والهوية والمقاومة.

الجانب التاريخي: السرد كوسيلة لإحياء الذاكرة

تقع أحداث الثلاثية بين عام 1491، عام توقيع معاهدة تسليم غرناطة للملكين الكاثوليكيين، و1609، عام طرد آخر مسلمي الأندلس. وهي فترة مضطربة تميزت بالخداع السياسي، والاضطهاد الديني، ومحاولات طمس الهوية الإسلامية واللغوية للمسلمين الأندلسيين.

ببراعة الباحثة لا الكاتبة فقط، تُعيد رضوى عاشور بناء هذا العالم المنسي، لا من منظور الحكام والمعارك، بل من عيون الناس العاديين: الوراق، بائع الكتب، والجدّية مريمة، والشابة سليمة، والصبي نعيم… هؤلاء هم أبطال الرواية، الذين نراهم يواجهون الكوارث اليومية بصمت وعزيمة، ويحاولون التشبث بلغتهم ودينهم وثقافتهم تحت ضغط محاكم التفتيش والإجبار على التنصير.

ومع أن الرواية لا تخرج عن السياق التاريخي المعروف، إلا أنها تقدم تفاصيل حية ودقيقة تجعل القارئ يشعر بأنه يعيش داخل المدينة، ويرى مشاهد حرق الكتب، أو طرد المسلمين من بيوتهم، لا بوصفها مشاهد تاريخية، بل باعتبارها مآسي إنسانية متجددة.

الجانب الفني: البناء السردي والشخصيات

اعتمدت رضوى عاشور على أسلوب سردي هادئ ومنساب، دون ضجيج لغوي أو خطابات مباشرة. اللغة رشيقة، مكثفة، وشاعرية أحيانًا، لكنها دقيقة دائمًا. الجمل قصيرة لكنها محملة بالمعنى، والمقاطع الوصفية تأتي في سياق يخدم الحبكة لا يبطئها.

يُقسم السرد على ثلاثة أجزاء، ولكل جزء عنوان وشخصية محورية:

  1. “غرناطة” – محور الرواية وشخصياتها المؤسسة مثل أبو جعفر الوراق، ورُشد، ونعيم الصغير.
  2. “مريمة” – الجدة التي تتولى زمام الأسرة بعد غياب الرجال، وتصبح رمزًا للصبر والحكمة والمقاومة.
  3. “الرحيل” – الجزء الختامي الذي تتسارع فيه وتيرة المأساة حتى تصل إلى الطرد النهائي من الأندلس، وتلخصه مأساة سليمة وولدها.

تميزت الرواية بتنوع الشخصيات وغناها النفسي: فلا وجود لأبطال خارقين أو مثاليين، بل ناس عاديون، يخطئون ويصيبون، يُحبون ويكرهون، يخافون ويقاومون. هذا التوازن بين الضعف الإنساني والإرادة يعطي الرواية عمقًا نادرًا في السرد العربي.

البعد الإنساني والنفسي

ثلاثية غرناطة ليست فقط رواية عن سقوط الأندلس، بل عن الإنسان في مواجهة الظلم والاقتلاع والخذلان. من خلال شخصياتها، تستعرض الرواية كيف يتغير الإنسان أمام الخوف والفقد والقهر.

  • مريمة، التي تُجبر على تربية أحفادها في مجتمع لا يسمح لهم أن يكونوا مسلمين علنًا، لكنها تُصر على تعليمهم اللغة العربية والقرآن في السر، تصبح رمزًا للأم التي تحمي جذور الهوية.
  • سليمة، الفتاة التي تشهد اغتصاب طفولتها عبر الزواج القسري والانكسارات المتتالية، لكن في لحظة فارقة، تقرر أن تنتصر لكرامتها، وتُصبح رمزًا للتمرد الأنثوي في مجتمع مكسور.
  • أبو جعفر الورّاق، رمز الثقافة، الذي يُقتل بسبب حبه للكتب، يمثل كيف يمكن للقلم أن يكون خطرًا على السلطة الظالمة.

الرواية تُركز على الروتين اليومي للمأساة: كيف يتعامل الناس مع الحظر، مع فقدان الأحبة، مع الخوف من محاكم التفتيش، مع الإذلال اليومي. لكنها تُضيء أيضًا لحظات الفرح الصغير، كحفلات الزواج، أو جلسات التعليم في السر، لتؤكد أن الإنسان، في أشد لحظاته ظلمًا، لا يفقد قدرته على الفرح والحلم.

الرسائل السياسية والاجتماعية

وراء القصة التاريخية، هناك رسائل واضحة عن الاستعمار الثقافي، وطمس الهوية، وخيانة النخب، والانكسارات العربية المتكررة. كتبت رضوى الرواية في تسعينيات القرن الماضي، في وقت كان فيه الوعي العربي يعاني من آثار هزائم متتالية (خصوصًا بعد حرب الخليج)، وجاءت الثلاثية كتأمل عميق في جذور الانكسار.

عبر رواية سقوط الأندلس، تحذرنا الكاتبة من المصير نفسه في العالم العربي إن استمرت الفرقة، والانغلاق، وخيانة الثقافة، والتبعية للأجنبي. لكنّها لا تسقط في اليأس، بل تزرع بمهارة فكرة أن التمسك بالهوية والمعرفة هو شكل من أشكال المقاومة.

موقع الثلاثية في الأدب العربي

لا يمكن الحديث عن الرواية التاريخية العربية دون ذكر “ثلاثية غرناطة”. لقد شكّلت منعطفًا في مسار الرواية التاريخية، إذ تجاوزت الطابع التعليمي أو الإخباري، وحققت توازنًا بين الدقة التاريخية والخيال الأدبي. كما أن صوت الكاتبة الأنثوي أضفى خصوصية على الرواية، من حيث التركيز على دور المرأة في الحفاظ على الهوية داخل الأسرة والمجتمع.

الرواية تُدرس في كثير من الجامعات العربية، واعتبرها كثير من النقاد من أهم 100 رواية عربية في القرن العشرين، وقد تُرجمت إلى عدة لغات أجنبية، ما يدل على عالميتها رغم خصوصية موضوعها.

خاتمة

ثلاثية غرناطة ليست مجرد عمل روائي، بل وثيقة وجدانية تُسجّل فصلاً من فصول الخسارة العربية، وتُجسّد قوة الإنسان في وجه القهر. إنها رواية عن التمسك بالأمل، عن أن المقاومة تبدأ من الحفاظ على اللغة، وعلى الذكرى، وعلى المعنى.

هي مرآة للماضي، وصوت للحاضر، وصرخة نحو المستقبل: لا تسلّموا راية الذاكرة… ولا تنسوا أن الانهيار يبدأ حين نكفّ عن الحلم والقراءة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *